فصل: تفسير الآيات (119- 120):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (114- 115):

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
وقوله سبحانه: {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء...} الآية، أي: أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما سألوا، فيروى أنه لَبِسَ جُبَّة شَعْرٍ، ورداءَ شَعْرٍ، وقام يصلِّي، ويبْكِي، والعيدُ: المجتمعُ، وقوله: {لأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا}، رُوِيَ عن ابن عَبَّاس؛ أن المعنى: يكون مجتمعاً لجميعنا أوّلِنا وآخرنا، قال: فأكل من المائدة حِينَ وُضِعَتْ أولُ النَّاس؛ كما أكل آخرِهم، {قَالَ عِيسَى}، أيْ: وعلامةً على صِدْقي، فأجاب اللَّه تعالى دعوةَ عيسى عليه السلام، وقال: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، ثم شَرَطَ عليهم سبحانه شرْطَهُ المتعارَفَ في الأمم؛ أنه مَنْ كَفَر بعد آية الاقتراح، عُذِّب أشدَّ عذابٍ، والجمهور أنَّ المائدة نزلَتْ كما أخبر اللَّه سبحانه، واختلفوا في كيفيَّة ذلك، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: نزلَتِ المائدةُ خُبْزاً وسَمَكاً، وقال عطية: المائدةُ سمكَةٌ فيها طَعْمُ كُلِّ طعامٍ، وقال ابنُ عبَّاس: نزل خُوَانٌ عليه خْبُزٍ وسَمَكٌ يأكلون منه أينما نَزَلُوا، إذا شاءوا، وقال عمَّار بن ياسر: سألوا عيسى مائدةً يكون عليها طعامٌ لا ينفَذُ، فقيل لهم: إنها مقيمةٌ لكم ما لم تُخَبِّئُوا، أو تخونُوا، فإن فعلتم، عُذِّبتم، قال: فما مضى يومٌ؛ حتى خَبَّئُوا، وخانوا، يعني: بني إسرائيل، فمُسِخُوا قردةً وخنازيرَ، وقال ميسرة: كانَتِ المائدة، إذا وُضِعت لبني إسرائيل، اختلفت عليهم الأيدِي بكلِّ طعامٍ إلا اللحم، وأكثَرَ الناسُ في قصص المائدةِ ممَّا رأَيْتُ اختصاره؛ لعدم سَنَده.

.تفسير الآيات (116- 118):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله...} الآية: اختلف المفسِّرون في وَقْت وقوعِ هذا القَوْل، فقال السدي وغيره: لما رفَع اللَّه عيسى إلى السماء، قالَتِ النصارى ما قالَتْ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى عَنْ قولهم، فقال: {سبحانك...} الآية، ويجيء على هذا قولُهُ: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ}، أي: في التوبة مِنَ الكُفْر؛ لأن هذا قاله، وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس، وجمهورُ النَّاس: هذا القولُ مِنَ اللَّه إنما هو يَوْمَ القيامة يقوله اللَّه له على رءوس الخلائقِ، فَيَرَى الكفَّار تبرِّيَهُ منهم، ويعلَمُون أنَّ ما كانوا فيه باطلٌ، ف {قَالَ}؛ على هذا التأويلِ بمعنى: يَقُولُ؛ ونُزِّل الماضِي موضِعَ المستقبلِ؛ لدلالته على كون الأمر وثبوته، وقولُه آخِراً: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ}: معناه: إن عذَّبَتْ العالَمَ كلَّه، فبحقِّك، فهم عبادُكَ تصنعُ بحَقِّ المُلْكِ ما شِئْت؛ لا اعتراض علَيْك، وإن غفَرْتَ وسبَقَ ذلك في عِلْمك؛ فلأنك أهْلٌ لذلك؛ لا معقِّب لحكمك، ولا مُنَازَعَ لك، فيقولُ عيسى هذا على جهة التسليمِ والتعزِّي عنهم، مع علمه بأنهم كَفَرةٌ قد حُتِمَ عليهم العذابُ، وهذا القولُ عنْدِي أَرجَحُ؛ ويتقوَّى بما يأتي بعدُ، وهو قوله سبحانه: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119].
وقوله: {سبحانك}، أي: تنزيهاً لك عَنْ أن يقال هذا، ويُنْطَقَ به؛ {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، أي: ما يكون لبَشَرٍ مُحْدَثٍ أنْ يَدَّعِيَ الألوهية، ثم قال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأنك أحطت بكلِّ شيء علماً وأحصيتَ كلَّ شيء عدداً فوفَّق اللَّه عيسى لهذه الحُجَّة البالغةِ وقوله {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}، خصَّ النفْسَ بالذكْرِ؛ لأنها مَظِنَّةُ الكَتْم والانطواء على المعلومات.
والمعنى: أن اللَّه سبحانه يعلم ما في نَفْسِ عيسى، ويعلم كل أَمْرِهِ مما عسى ألا يكون في نفسه.
وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}: معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما أحَطْتَ به، وذكْر النفْس هنا مقابلةٌ لَفْظِيَّةٌ، في اللسان العربي؛ يقتضيها الإيجَازُ؛ وهذا ينظر من طَرْفٍ خَفِيٍّ إلى قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54]؛ و{الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] فتسمية العُقُوبَةِ باسم الذَّنْبِ إنما قاد إليها طَلَبُ المُقَابَلَةِ اللفظية، إذ هي من فَصِيحِ الكلام، وبَارِعِ العبارة.
ثم أقر عيسى عليه السلام للَّه تعالى؛ بأنه سبحانه عَلاَّمُ الغيوب، أي: ولا عِلْمَ لي أنا بغيب.
وقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي}: أي: قبضتني بالرَّفْعِ، والتصييرِ في السَّمَاءِ، و{الرَّقِيبَ}: الحافظ المراعي.
وقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز}: أي: في قدرتك، {الحكيم} في أفعالك.
والمعنى: إن يكن لك في النَّاسِ مُعَذَّبُونَ، فهم عبادك، وإن يكن مغفور لهم، فَعزَّتُكَ وحكمتك تَقْتَضِي هذا كله.

.تفسير الآيات (119- 120):

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}
{قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ}؛ فدخل تحت هذه العِبَارَةِ كل مؤمن باللَّه سبحانه، وكُلُّ ما كان أتقى، فهو أَدْخَلُ في العبارة، وجاءت هذه العبارة مُشِيرَةً إلى عيسى عليه السلام في حاله، وصدْقه؛ فيحصل له بذلك في المَوْقِفِ شَرَفٌ عظيم، وإن كان اللفظ يعمه وسواه.
ثم ذكر تعالى ما أعدَّهُ لهم برحمته، وطوله، جعلنا اللَّه منهم بمَنِّهِ، وسَعَةِ جُودِهِ، لا رَبّ غيره، ولا مرجو في الدَّارَيْنِ سواه، وباقي الآية بَيِّنٌ. جعل اللَّه ما كتبناه من هذه الأحرف نوراً يسعى بين أيدينا بمَنِّهِ. والحمد للَّه كما هو أهْلُهُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وَسَلَّمَ.

.سورة الأنعام:

قيل: كلها مكية إلا آيات يسيرة.
قال ابن عباس: نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون الف ملك لهم زجل يجأرون بالتسبيح.
قلت: وعن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق». رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، وقال: صحيح على شرط مسلم. انتهى من السلاح.

.تفسير الآيات (1- 2):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}
قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور}.
قال علي بن عبد الرحمن اليفرني في شرحه للبرهانية: قال الإمام الفَخْرُ: لفظ الحمد مُعَرَّفاً لا يُقَالُ إلا في حَقِّ اللَّه عز وجل؛ لأنه يدلُّ على التعظيم، ولا يجوز أن يقال: الحمد لِزَيْدٍ. قاله سيبويه.
وذكر ابن العَرَبِيِّ في القانون عن أنس؛ أن النبيِ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إلى اللَّهِ مِنَ الحَمْدَ، وأَبْلَغُ الحَمْدِ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ». قال ابن العربي: وفي بعض الآثار: «ما من نِعْمَةٍ عَظْمَتْ إلا والحمد للَّه أعْظَمُ منها» انتهى.
قال * ع *: و{جَعَلَ} هاهنا بمعنى: {خلق}، ولا يجوز غَيْرُ ذلك.
قال قتادة، والسُّدِّيُّ؛ وجمهور من المفسرين: الظلمات الليل، والنور النهار.
وقال فرقة: الظُّلمات الكُفْرُ، والنور الإيمان.
قال * ع *: وهذا على جهة التَّشْبِيهِ صحيح، وعلى ما يفهمه عُبَّادُ الأوثان غير جيد؛ لأنه إخراج لَفْظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى بَاطِنٍ لغير ضَرُورَةٍ، وهذا هو طريق اللُّغْزِ الذي بَرِئ القُرْآنُ منه، والنور أيضاً هنا لِلْجِنْسِ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ} دالة على قُبْحِ فعل الذين كَفَرُوا؛ لأن المعنى: أن خلقه السَّمَوَاتِ والأَرْض، وغيرها الموجبة لحمده، وتوحيده قد تقرر، وآياته قد سَطَعَتْ، وإنعامه بِذَلِكَ على العباد قد تَبَيَّنَ، فكان الواجب عليهم إخْلاَصَ التوحيد له، ثم هم بعد هذا كله بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ؛ أي: يُسَوّون، ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومَثِيلُهُ.
و{الذين كَفَرُواْ} في هذا المَوْضِعِ كل من عَبَدَ شَيْئاً سوى اللَّه إلا أن السَّابِقَ من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشَارَةَ إلى عَبَدَةِ الأوثان من العرب؛ لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المَانَوِيَّةِ العابدين للنور، القائلين: إن الخَيْرَ من فِعْلِ النور، والشر من فِعْلِ الظلام.
وقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} فالمعنى: خَلَقَ آدم من طِينٍ.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} اختلف في هذين الأَجَلَيْنِ، فقال الحسن بن أبي الحَسَنِ وغيره: {أَجَلاً} أَجَلُ الإنسان من لَدُنْ وِلاَدَتِهِ إلى موته، والأجل المسمى عنده من وَقْت موته إلى حَشْره، ووصفه ب {مُّسمًّى عِندَهُ}؛ لأنه استأثر سبحانه بعِلْمِ وَقْتِ القيامة. وقال ابن عباس: {أَجَلاً} الدنيا، {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} الآخرة.
وقيل غير هذا.
{وتمْتَرُونَ} معناه: تشكون.

.تفسير الآيات (3- 6):

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)}
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الله فِي السموات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} قاعدة الكلام في هذه الآية: أن حُلُولَ اللَّه في الأمَاكِنِ مُسْتَحِيلٌ تعالى أن يَحْوِيَهُ مكان، كما تَقَدَّسَ أن يَحُدَّهُ زمان، بل كان قبل أن خَلَقَ المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وإذا تَقَرَّرَ هذا، فقالت فرقة من العلماء: تَأْوِيلُ ذلك على تقدير صِفَةٍ محذوفة من اللفظ ثَابِتَةٍ في المعنى، كأنه قال: وهو اللَّه المَعْبُودُ في السموات، وفي الأرض. وعبر بعضهم بأن قدر: وهو اللَّه المدبر للأمر في السموات والأرض.
وقال الزَّجَّاجُ: {فِي} متعلقة بما تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللَّه من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المَشْرِقِ والمغرب.
قال * ع *: وهذا عِنْدِي أَفْضَلُ الأقوال، وأكثرها إحرازاً لِفَصَاحَةِ اللفظ، وجزالة المعنى.
وإيضاحه: أنه أراد أن يَدُلَّ على خلقه، وآثار قدرته، وإحاطته، واستيلائه، ونحو هذه الصفات، فجمع هذه كلها في قَوْلِهِ: {وَهُوَ الله} أي: الذي له هذه كلها في السموات، وفي الأرض، كأنه قال: وهو اللَّه الخَالِقُ، الرازق، المحيي، المحيط في السموات وفي الأرض، كما تقول: زيد السلطان في المَشْرِقِ والمغرب والشام والعراق، فلو قصدت ذَاتَ زَيْد لَقُلْتَ مُحَالاً، وإذا كان مَقْصِدُ قولك الآمِرَ، النَّاهِيَ، الناقض، المُبْرِمَ، الذي يعزل ويُوَلِّي في المشرق والمغرب، فأقمت السلطان مقام هذه، كان فصيحاً صحيحاً، فكذلك في الآية أقام لَفْظَةَ {الله} مقام تلك الصِّفَاتِ المذكورة.
وقالت فرقة: {وَهُوَ الله} ابتداء وخَبَرٌ، تم الكَلاَمُ عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله: {فِي السموات} بمفعول {يَعْلَمْ}، كأنه قال: وهو اللَّه يَعْلَم سِرَّكُمْ وجهركم في السموات، وفي الأرض.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} خبر في ضمنه تَحْذِيرٌ وزَجْرٌ، و{تَكْسِبُونَ} لفظ عام لجميع الاعْتِقَادَاتِ، والأقوال، والأفعال.
وقوله سبحانه: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} تضمنت هذه الآية مَذَمَّةَ هؤلاء الذين يَعْدِلُونَ باللَّه سواه، بأنهم يُعْرِضُونَ عن كل آية، وكذبوا بالحق، وهو محمد عليه السلام وما جاء به.
قال * ص *: {مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءايات رَبِّهِمْ} {من} الأولى زَائِدَةٌ للاستغراق، وما بعدها فاعل بقوله: {تَأْتِيَهُمُ}.
و{من} الثانية للتبعيض انتهى.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هذا وَعِيدٌ لهم شديد، وهذه العُقُوبَاتُ التي تُوُعِّدُوا بها تعمُّ عُقُوبَاتِ الدنيا كَبَدْرٍ وغيرها، وعقوبات الآخرة.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} هذا حَضٌّ على العِبْرَةِ، والرؤية هنا رُؤْيَةُ القلب، والقَرْنُ: الأمة المقترنة في مُدَّةٍ من الزمن.
واختلف في مدة القَرْنِ كم هي؟
فالأكثر على أنها مائة سَنَةٍ.
وقيل غير هذا.
وقيل: القَرْنُ الزمن نَفْسُهُ، وهو على حَذْفِ مضاف، تقديره: من أَهْلِ قرن. قال عياض في الإكمال: واختلف في لَفْظِ القَرْنِ، وذكر الحربي فيه الاخْتِلاَفَ من عَشْرِ سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال يعني الحربي: وليس منه شيء وَاضِحٌ، وأرى القرن كُلّ أمة هَلَكَتْ، فلم يَبْقَ منها أحد. انتهى.
والضمير في {مكناهم} عائد على القَرْنِ، والمخاطبة في {لَكُمْ} هي للمؤمنين، ولجميع المُعَاصِرِينَ لهم من سائر الناس، و{السماء} هنا المَطَرُ، و{مِّدْرَاراً} بناء تكثير، ومعناه: يدرُّ عليهم بِحَسَبِ المنفعة.
وقوله سبحانه: {وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخرِينَ}.
{أَنشَأْنَا}: اخترعنا، وخلقنا، ويظهر من الآية أن القَرْنَ إنما هو وَفَاةُ الأَشْيَاخِ، ثم وِلاَدَةُ الأطفال.

.تفسير الآيات (7- 9):

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}
وقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ} الآية.
لمْا أَخْبَرَ عنهم سبحانه بأنهم كذبوا بكل ما جَاءَهُمْ من آية أَتْبَعَ ذلك بإخْبَارٍ فيه مُبَالغة، والمعنى: ولو نزلنا بِمَرْأًى منهم عليك كتاباً أي: كلاماً مَكْتُوباً في قِرْطَاسٍ، أي: في صحيفة.
{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} يريد: أنهم بالغوا في مَيْزِهِ وتقليبه؛ ليرتفع كل ارْتِيَابٍ لعاندوا فيه، وتابعوا كُفْرَهُمْ وقالوا: هذا سحر مبين.
وقوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: يصدّق محمداً في نُبُوءَتِهِ، ثم رَدَّ اللَّه عليهم بقوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: في الكلام حَذْفٌ، تقديره: ولو أنزلنا مَلَكاً، فكذبوه لَقُضِيَ الأمر بعَذَابِهِمْ، ولم يُنْظَرُوا حسبما سَلَفَ في كل أمة اقْتَرَحَتْ بآية، وكذبت بعد أن أُظْهِرَتْ إليها.
وقالت فرقة: {لَقُضِيَ الأمر} أي: لَمَاتُوا من هَوْلِ رؤية المَلَكِ في صورته، ويؤيد هذا التَّأْوِيلَ ما بعده من قوله: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} فإن أَهْلَ التأويل مُجْمِعُونَ أن ذلك؛ لأنهم لم يكونوا يُطِيقُونَ رؤية المَلَكِ في صورته، فإذ قد تَقَعَّدَ أنهم لا يطيقون رُؤْيَةَ المَلَكِ في صورته، فالأولى في قوله: {لَقُضِيَ الأمر} أي: لماتوا؛ لِهَوْلِ رؤيته، {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ}، أي: لا يُؤَخَّرُونَ.
ومما يؤيد هذا المعنى الحَدِيثُ الوَارِدُ عن الرجلين اللذين صَعَدَا على الجَبَلِ يوم بَدْرٍ ليريا ما يَكُونُ في حَرْبِ النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، فَسَمِعَا حِسَّ الملائكة، وقَائِلاً يقول في السحاب: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِ أحدهما، فمات لِهَوْلِ ذلك، فكيف برؤية مَلَكٍ في خِلْقَتِهِ.
{وَلَلَبَسْنَا} أي: لفعلنا لهم في ذَلِكَ فِعلاً مُلْبَساً يطرق لهم إلى أن يَلْبَسوا به، وذلك لا يحسن.
قلت: وفي البخاري: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}: لشبهنا.